• ٢٧ نيسان/أبريل ٢٠٢٤ | ١٨ شوال ١٤٤٥ هـ
البلاغ

التحليل الفلسفي لطبيعة الإصلاح الدستوري

د. سامر مؤيد عبداللطيف

التحليل الفلسفي لطبيعة الإصلاح الدستوري

لم يبالغ من وصف الدستور بكونه وثيقة التأمين على حياة الشعوب؛ طالما ارتقت قواعده إلى قمة هرم البناء القانوني لتنظم علاقة السلطة بشعبها وتكون مرجعاً لشرعية سائر القوانين والتشريعات في الدولة.

 غير إنّ هذا الدستور صناعة بشرية لا يمكنها بلوغ الكمال، مهما اجتهدت السلطة التأسيسية في صياغة نصوصه؛ فما ينتج عن قاصر لا يمكن إلّا أن يكون قاصراً، وما جاء في زمان لا يمكنه مجاراة التغيير والتطوّر في الأحوال والأوضاع في كلّ الأزمان.

ومن تفاعل سمة القصور التشريعي مع سُنّة التطوّر الكوني تنبع الحاجة للإصلاح الدستوري الذي لا يمكن حصره - مهما اتّسعت حدود الإدراك والتصوّر - بمجموعة الخطوات والإجراءات التي تتضمّن تعديل النصوص الدستورية كلّياً أو جزئياً وتطويرها بما يلبّي الحاجات والطموح ويحقّق نقلة نوعية على مستوى تطبيق تلك النصوص بعد معالجة القصور فيها، بل إنّ الإصلاح الدستوري، يتعدّى ذلك الوصف ليضحى عملية معقّدة من طابع تراكمي وشمولي تنتج من شراكة بين الحاكم والمحكوم وتفاعل وتعاضد قوى وجهود عدّة جهات ومؤسّسات حكومية وغير حكومية.

ونتيجة لهذا التصوّر، تواجه مهمّة البحث في طبيعة الإصلاح الدستوري سلسلة من الإشكالات الفلسفية والقانونية التي طمست الحدود الذهنية الواضحة لتشخيص كنه هذا المفهوم، تتقدّم تلك الإشكاليات، مشكلة إدراك وتوصيف الآلية التي تحكم عملية الإصلاح عبر إثارة تساؤل مفاده هل إنّ الإصلاح الدستوري عملية تراكمية ممتدة الجذور ومتعدّدة الإجراءات والمراحل والأبعاد أم إنّه مرحلة انتقالية تمر عبرها الدولة ونظامها السياسي تمهيداً للانتقال إلى ضفة الحرّية والديمقراطية؟

 وبالتحليل الموضوعي للتجارب التاريخية والواقعية التي مرّ بها الإصلاح الدستوري في دول العالم المتحضر، يمكن لنا إدراك الطابع النسبي المتغير للمسار الذي يمرّ عبره الإصلاح والأساليب التي يركن إليها في تحقيق غاياته؛ فتارة يأخذ الإصلاح الدستوري طابعاً تراكمياً ممتد الجذور، يعبر عن إرهاصات الواقع وتطوّراته وتطوّر الوعي السياسي والاجتماعي للشعب والنُّخبة الحاكمة، فيكون سمةً وطابعاً مميّزاً وملاصقاً لمثل هذه الدولة؛ ليتّخذ بهذا الوصف طابع العملية التراكمية والمتعدّدة الأبعاد والمراحل؛ فهي عملية لاعتمادها سلسلة من الإجراءات والتفاعلات الظرفية والإرادية، مثلما أنّها تراكمية، لكونها تتطوّر عبر سنين وحُقب طويلة لتنضج مع نضج الوعي ومخرجاته الفعلية على أرض الواقع؛ ثمّ إنّها (أي العملية الإصلاحية) لا تسلك إلى غايتها في تغيير الدستور وتطويره سبيلاً واحداً أو تتّخذ بُعداً آحادياً متفرداً ولا حتى إنّها تنتهي إلى غاية واحدة، بل تتعدّد سُبُلها وأبعادها بتعدّد موضوعات الدستور وما يعبّر عنه من جوانب مختلفة لحركة المجتمع وتطوّره.

ثمّ إنّ عملية الإصلاح الدستوري بالمحصلة الأخيرة، عملية متعدّدة المراحل لكونها تنشأ مع نشوء الوعي بالحاجة للتغيير والتطوير لدى العامّة أو النُّخبة، ثمّ تتطوّر مع تطوّر الإرادة والمسعى لإدراك التغيير، لتصبّ في محطتها الأخيرة في قنوات الدستور وقواعده إذ تعبّر عن اكتمال صورة الوعي وأركانه ونضج عملية التطوّر التي قطعها المجتمع لبلوغ هذه النتيجة.

 بالمقابل يزوّدنا تاريخ التجارب الدستورية في العالم بمعين يدفعنا إلى الاستنتاج بأنّ الإصلاح الدستوري قد يتشكّل في سياق أو يقع تحت طائلة متغيرات ظرفية وحاجات آنية طارئة، وغالباً ما يكون الإصلاح - دستورياً كان أم سياسياً - في هذه الأحوال تعبيراً عن استجابة آنية من الحاكم لضغوطات ومطالب شعبية أو حتى خارجية في التغيير والتطوّر، فلا تتغلغل جذوره في الوعي الاجتماعي، ولا يمتدّ أثره للمستقبل البعيد، وفي أحيان يعبّر عن إجراءات شكلية ذات طابع محدّد (دستوري أو سياسي أو حتى اجتماعي واقتصادي) يتّخذها الحاكم لإسكات الشعب أو تطمين مخاوف المجتمع الدولي لضمان بقاءه في السلطة وإضفاء طابعاً من الشرعية على نظام حكمه.

وبكلّ الأحوال، سواء تجذّرت عملية الإصلاح الدستوري وامتدّت أو انقطعت جذورها وارتهنت بظروف آنية، فإنّها لا تخرج عن كونها عملية شرعية إجرائية تستهدف تغيير وتطوير مواد الدستور بما يتناسب مع التطوّرات في المجتمع والعملية السياسية وإن تعدّدت دوافعها وظروفها.

الإصلاح الدستوري وسيلة للتغيير أم غاية له؟

 بيد أنّ هذا الجدل لا يقطع دابر الشكّ في تحري كنه الإصلاح الدستوري لاسيّما مع مواجهة سؤال آخر مفاده هل أنّ الإصلاح الدستوري وسيلة للتغيير أم غاية له؟

 ثمة مَن يدعي بأنّ الإصلاح الدستوري هو ثمرة ومحصلة لمراحل ومحطات وإرهاصات عدّة تتفاعل في نطاق الوعي الإنساني وواقعه المتغير لتصل ذروة تطوّرها في رحاب الدستور باعتباره أسمى وثيقة قانونية واجتماعية في الدولة تستخدم لترجمة ما يعيشه المجتمع من تطوّرات؛ فيكون الإصلاح الدستوري من هذا الباب نتيجة ومحصلة لعملية التطوّر لضمان حقّ الأُمّة في التغيير وتوثيقه في أسمى وثيقة وعهد سياسي هو الدستور.

 من زاوية أُخرى يتم وضع الإصلاح الدستوري في سياق الوسيلة التي تصبو لتحقيق غايات أسمى وأبعد وأوسع مدى؛ إذ سيكون الدستور وما يلحق به من تغييرات منطلقاً وإطاراً من المشروعية لانطلاقة عملية تغيير أوسع وأكثر امتداداً في الزمان والمجال، أي بعبارة أُخرى إنّ الإصلاح الدستوري سيضع اللبنة الأُولى والقاعدة القانونية لعملية الإصلاح السياسي والاجتماعي وغيره من مدارات الإصلاح، أو إنّه القناة القانونية التي تمر عبرها كلّ صنوف الإصلاح التي ترومها الأُمّة للنهوض بواقعها المتردي أو تحسين ما هو قائم مهما انطبق عليه من وصف.

 ومن حصيلة ما تقدّم يمكن مسايرة الرأي الثاني الذي يرى في الإصلاح الدستوري مرتكزاً ومنطلقاً للإصلاح لا غايةً له، فحركة التغيير والتطوّر في الواقع لا تنتهي بالوثيقة الدستورية وإنّما تسترشد وتهتدي بها لأطوار أكثر تقدّماً في حركة هذا الواقع، وبكلّ الأحوال، فلا عبرة للنصوص بمعزل عن الواقع إذا ما انقطعت سُبُلها إليه، وكم من الدساتير وضعت لتهمل أو تنتهك حُرمة نصوصها رغم أنّ هذه الأخيرة لا يعتريها القصور لولا أنّ إرادة الحاكمين قد انصرفت عنها أو أنّ تيارات الواقع وظروفه الصعبة قد تجاوزتها وحكمت عليها بالاحتقار والإهمال.

بيد أنّ الأمر الأكثر محورية في بحث طبيعة الإصلاح الدستوري يقع في مجال الحكم على الإصلاح الدستوري بكونه من طبيعة قانونية أو سياسية أو مختلطة بين الأمرين. ومثل هذا الجدل سيعيدنا إلى الجدل التقليدي الذي قدّمه الفقه الدستوري حول طبيعة القواعد الدستورية طالما إنّ الكلام يدور حول الدستور وإن كان ذلك من نافذة إصلاحه وتقويمه.

 فيكون الإصلاح الدستوري كمثل قواعد الدستور من طبيعة قانونية طالما اعتلى الدستور صرح القوانين ومنحها الشرعية، واتّخذ طابعها في العمومية والإطلاق والتجريد؛ كما اتّخذ على غرارها (أي القوانين) منحى الأمر والتنظيم والعقاب -بصفته المعنوية على أقل تقدير- الذي تنضبط به حركة الواقع وعلاقاته فهو الإطار القانوني الذي يحكم علاقة الحاكم بالمحكوم وينظّم عمل السلطات والحقوق والحرّيات، والإصلاح من هذا المنظار ما هو إلّا معالجة لهذه المنظومة القانونية العليا، وتجديد لنسق الشرعية التي تحتكم إليها فعاليات الدولة ومؤسّساتها.

الإصلاح الدستوري نهج سياسي

 من جانب آخر فثمة مَن يرى في الإصلاح الدستوري نهجاً سياسياً طالما إنّه يعبّر عن إرادة ورؤية وتطلّع صاحب السلطة السياسية لتطوير بنية وأداء المؤسّسات السياسية في الدولة عبر تطوير قواعد الدستور؛ لاسيّما وإنّ الدساتير منذ نشأتها حملت معنى ومدلولاً سياسياً حينما استعملت كوسيلة لتكريس سلطة الفرد والفئة والحزب، وعبّرت قواعده عن اختيارات ورُؤى سياسية لمن يملك السلطة؛ فيكتسب الإصلاح الدستوري تبعاً لذلك صفةً سياسيةً، لكونه نابع من إرادة وقرارٍ سياسي ينشد تطوير نصوص الدستور مهما كانت مسبّبات هذا القرار، ولكونه يستهدف تطوير المؤسّسات السياسية لإدامة شرعية واستمرار السلطة السياسية بالنتيجة النهائية وهذه كلّها أُمور من طابع سياسي.

 إنّ الموضوعية تقودنا لتبنّي الرؤية التي تمزج بين الطبيعة القانونية للإصلاح الدستوري والطبيعة السياسية، فإنّ هذا الإصلاح وإن نبع من إرادة سياسية ومرّ بتطوير موضوعات سياسية في بعض جوانبها ولتحقيق أهدافٍ من بينها إدامة وتجديد شرعية النظام السياسي واستمراره، فإنّ هذه العملية تحتكم إلى قواعد القانون وإجراءاته وتعبّر عن ذاتها بنصوص من طبيعة قانونية، تودع في متن الدستور، لتنظم وتؤطّر وفق نسقٍ قانوني كلّ الفعاليات في الدولة وتمنحها صفة الشرعية وهي أُمور من طبيعة قانونية.

 وبكلّ الأحوال، لا يمكن تجاوز المحتوى الإنساني والطبيعة الاجتماعية للإصلاح الدستوري بدلالة القوّة الدافعة (المجتمع) والمحيط المؤثر فيه، وكذلك بدلالة الموضوعات التي يعالجها ذلك الإصلاح والتي قد تكون موضوعات ذات طابع اجتماعي لاسيّما وإنّ من بين قواعد الدستور وموضوعاته تلك النصوص المعنية بالحياة الاجتماعية للأفراد، والأكثر من هذا وذاك ينبغي أن لا ننسى أنّ الهدف الذي يبتغيه الإصلاح الدستوري لن يفارق محتواه ومغزاه الإنساني والاجتماعي، فيكتسب الإصلاح الدستوري من حصيلة تفاعل كلّ تلك المعطيات طابعه الإنساني والاجتماعي عندما يسعى إلى ضمان التناغم بين النص الدستوري والواقع الاجتماعي المتغير ويحقّق أهدافه.

ارسال التعليق

Top